الثلاثاء، 23 يناير 2018

موجز شرح القواعد الفقهية




موجز شرح القواعد الفقهية
إنَّ الحَمْدَ لله، نَحْمَدُه، ونستعينُه، ونستغفرُهُ، ونعوذُ به مِن شُرُورِ أنفُسِنَا، وَمِنْ سيئاتِ أعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِه الله فَلا مُضِلَّ لَهُ، ومن يُضْلِلْ، فَلا هَادِي لَهُ.
وأَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبْدُه ورَسُولُه.

أما بعد:
فإن من نعم الله - عز وجل - علينا أن هيأ لنا أسباب طلب العلم الشرعي، الذي نتقرب به إلى الله - عز وجل - فإن أفضل نعمة ينعم الله بها على العباد في الدنيا: الدخول في دين الإسلام والالتزام بشرائعه، وإن من شرائع هذا الدين: طلب العلم الشرعي؛ فهو قربة لله - عز وجل - وهو أيضا وسيلة من وسائل التقرب إلى الله - عز وجل - فهو غاية في نفسه، وسيلة للتقرب إلى الله في غيره من الأعمال، فإنه لا يتصور أن يتقرب العبد إلى ربه - عز وجل - إلا بالعلم الشرعي.
وإن من فضل الله علينا أن جعلنا نتذاكر في مثل هذه المجالس العلمية، التي هي أفضل ما في الدنيا وأبرك ما فيها، والسعادة تحصل في مثل هذه المجالس وإنه -والله ثم والله- لا يوجد أحد أسعد من طالب علم، يبذل وقته في طلب العلم، يتقرب بذلك إلى الله - عز وجل -


حديثنا في هذه الدورة، عن القواعد الفقهية، وأود أن أقدم بمقدمة عن علم القواعد الفقهية بحيث نتناول تاريخ هذا العلم ، فالمتأمل في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - يجد أن هناك عددًا من الأحاديث النبوية قد اختصرت ألفاظها، ودلت على معان عديدة، وأحكام متعددة، فيدلنا هذا على مبدأ قواعد الفقه.

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ سَعْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ الْخُدْرِيّ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ"حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ -راجع رقم: 2341، وَالدَّارَقُطْنِيّ :رقم: 4/228، وَغَيْرُهُمَا مُسْنَدًا. وَرَوَاهُ مَالِكٌ :2/746- فِي "الْمُوَطَّإِ" عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُرْسَلًا، فَأَسْقَطَ أَبَا سَعِيدٍ، وَلَهُ طُرُقٌ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًاالألوكة -.


ثم إن الشريعة قد دلت على معناه بعموم أدلتها الأخرى،

ومن ألفاظ النبي - صلى الله عليه وسلم - المختصرة التي أخذ منها قواعد فقهية قوله - صلى الله عليه وسلم - " الخراجُ بالضَّمانِ "

- أنَّ رجلًا اشترى عبدًا فاستغلَّهُ ثمَّ وجدَ بِه عيبًا فردَّهُ فقالَ يا رسولَ اللَّهِ إنَّهُ قدِ استغلَّ غلامي فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ الخراجُ بالضَّمانِ"

الراوي : عائشة أم المؤمنين | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح ابن ماجه

الصفحة أو الرقم: 1836 | خلاصة حكم المحدث : حسن- الدرر -

معنى الحديث: أنَّ مَن ابتاعَ أرضًا فاستعملها، أو ماشيةً فنَتَجها، أو دابَّةً فرَكِبَها، أو دارًا فسَكَنَها أو أجَّرها، فأَخَذَ غَلَّتها ثمَّ وَجَدَ بها عيبًا قديمًا دلَّسَهُ البائعُ عليه أو لم يُعَرِّفه به؛ فله أَنْ يردَّها إلى بائعها ويَسْتَرِدَّ ثمنَها ولا شيءَ عليه فيما انتفع به، لأنها لو تَلِفَتْ بين مدَّةِ العقد والفسخِ لَكانَتْ مِن ضمانِ المشتري؛ فوَجَبَ أَنْ يكون الخَراجُ له تحقيقًا للعدل ورفعًا للظلم، وهذا ما اقتضَتْه حكمةُ الشارعِ في أَنْ يجعل مِلْكَ الخَراجِ بضمانِ الأصل، ليكون الغُنْمُ في مُقابَلة الغُرْمِهنا .
 
 ومن الألفاظ الجامعة :
"إن النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قضى، أن اليمينَ على المدَّعَى عليه "
الراوي : عبدالله بن عباس - المحدث : البخاري - المصدر : صحيح البخاري -الصفحة أو الرقم: 2514 | خلاصة حكم المحدث : صحيح الدرر -


هذا الحديثُ يتضمَّنُ أصلًا كبيرًا في القضاءِ، وهو أنَّ اليمينَ على المدَّعَى عليه، كما أنَّ البيِّنَةَ على المدَّعِي، وبيانُ ذلك لوِ اختصمَ رَجلانِ وادَّعى أحدُهما أنَّ له على الآخَرِ مالًا، فهذا الرَّجلُ المدِّعِي إنَّما يجُب عليه البيِّنةُ، فإذا لم يأتِ بِالبيِّنةِ، فإنَّ الرَّجلَ الآخَرَ وهو المدَّعَى عليه ليس عليه إلَّا اليمينُ، فيحلِفُ على خِلافِ ما ادَّعاهُ عليه المدَّعِي.
والحِكمةُ في كونِ البينَّةِ على المدِّعِي واليمينِ على المَّدَّعَى عليه: أنَّ جانِبَ المدِّعِي ضعيفٌ؛ لأنَّه يقولُ خِلافَ الظَّاهرِ، فكُلِّف الحجَّةَ القوِيَّةَ وهي البيِّنةُ وهي لا تَجلِبُ لِنفسِها نفعًا ولا تدفعُ عنها ضررًا فيقوَّى بها ضَعْفُ المدَّعِي، وجانِبُ المدَّعى عليه قويٌّ؛ لأنَّ الأصلَ فراغُ ذمَّتِه، فاكْتُفِيَ فيه بِحُجَّةٍ ضعيفةٍ وهي اليمينُ؛ لأنَّ الحالِفَ يَجلِبُ لِنفسِه النَّفعَ ويَدفعُ الضَّررَ، فكانَ ذلك في غايةِ الحِكمةِ
الدرر -.



ثم بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وردت ألفاظ رشيقة عن الأئمة من الصحابة، فمن بعدهم من التابعين فيها اختصار في الألفاظ، وشمول في المعاني والأحكام.
ومن ذلك قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه :
قَالَ عُمَرُ : مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ
 الراوي : - | المحدث : الألباني - المصدر : إرواء الغليل -الصفحة أو الرقم: 1891 | خلاصة حكم المحدث : صحيحالدرر -
أخرجه البخاري في صحيحه تعليقا في موضعين ؛ الأول : بَابُ الشُّرُوطِ فِي الْمَهْرِ عِنْدَ عُقْدَةِ النِّكَاحِ .
والثاني : بَابُ الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ .
ووصله الحافظ ابن حجر في تغليق التعليق فقال في الموضع الأول 3 / 408.
ثم بعد عصور الصحابة والتابعين، وبعد أن جاء عصر التدوين نجد أن الواحد من العلماء يعلل الأحكام الفقهية التي يطلقها بعلل تجمع أحكاما فقهية من أبواب شتى، فأخذ من تلك التعليلات قواعد فقهية.


*الفرق بين القاعدة الأصولية والقاعدة الفقهية يظهر من خلال عدد من الأمور :
الأمر الأول: أن القاعدة الأصولية توجد أولًا ، ثم يستخرج الحكم الفقهي، ثم بعد ذلك تجمع الأحكام الفقهية المتشابهة، فيؤلف منها قاعدة فقهية.
الفرق الثاني: أن
القاعدة الأصولية لا يمكن أن يؤخذ منها الحكم الفقهي مباشرة، بل لا بد أن يكون معها دليل تفصيلي، مثال ذلك قاعدة الأمر للوجوب، هل تأخذ منها وجوب أي فعل من الأفعال؟ لا يمكن حتى تضيف إليها دليلًا تفصيليًا مثل قوله تعالى " أَقِيمُوا الصَّلَاةَ " سورة الأنعام آية : 72.  من الفروق، بينما القاعدة الفقهية يمكن أن نأخذ منها حكمًا مباشرة، مثال ذلك: قاعدة الأمور بمقاصدها، نأخذ منها أن النية واجبة للصلاة وللوضوء، هذه قاعدة فقهية أخذنا منها الحكم مباشرة.

*الفرق بين القاعدة وبين الضابط:

=القاعدة الفقهية تكون مما يدخل في أبواب عديدة، فالقاعدة الفقهية لها فروع في أبواب فقهية متعددة، مثال ذلك: قاعدة الأمور بمقاصدها نأخذ منها وجوب الصلاة في باب الصلاة، ونأخذ منها في البيع أن المقاصد معتبرة.

، بينما الضوابط الفقهية تكون خاصة بباب واحد؛ مثال ذلك: قاعدة أن ما جاز في الفريضة من الصلوات جاز في النفل، فهذا ضابط فقهي متعلق بالأبواب- أبواب النوافل، نوافل الصلوات، ومثله ضابط كل زوج يلاعن، فهذا ضابط فقهي يختص بباب واحد.
=الفرق الثاني بين القاعدة الفقهية والضابط: أن
القاعدة الفقهية فيها إشارة لمأخذ الحكم ودليل الحكم، فقولنا: الأمور بمقاصدها فيه إشارة لمأخذ الحكم، وهو الدليل الوارد في ذلك إنما الأعمال بالنيات، كما رواه الشيخان من حديث عمر بن الخطاب، بينما الضابط الفقهي لا يشير إلى مأخذ المسألة ودليلها.
إذا تقرر ذلك
، فما هي القاعدة الفقهية؟ القاعدة الفقهية يراد بها حكم كلي فقهي ينطبق على جزئيات عديدة من أبواب مختلفة، فقيل: حكم؛ لأن الحكم يراد به إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه، في القاعدة الفقهية إثبات، أو نفي، وقيل: كلي؛ لإبعاد الأحكام الجزئية أحكام الفقه الخاصة بمسألة واحدة، فهذه ليست من القواعد الفقهية،، وقيل في التعريف: كلي، ولم يقل:  أغلبي مع أن كثيرًا من القواعد الفقهية لها مستثنيات بسبب أن لفظ القاعدة في ذاته كلي، وإنما الأغلبية بحسب الجزئيات الداخلة في القاعدة، فعندما أقول: المشقة تجلب التيسير، المشقة هذا حكم كلي، وليس حكما جزئيا، فلم أقل: أغلب المشقة تجلب التيسير. وكون بعض الفروع لا يدخل في القاعدة ليس معناه أن حكم القاعدة في ذاته ليس حكمًا كليًّا، بل هو حكم كلي.

وقيل: فقهي؛ لإخراج القواعد الكلية الواردة في العلوم الأخرى مثل قواعد النحو وقواعد الحساب- الفاعل مرفوع، والاثنان مع الاثنين يكون أربعة، ونحو ذلك.

ممن اعتنى بعلم القواعد الفقهية، وألف فيه المؤلفات: الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله-، وله مؤلفات عديدة في هذا العلم منها: كتاب "منظومة القواعد الفقهية وشرحها"، وهو الذي بين أيدينا، وسنتناوله بالشرح والإيضاح بإذن الله - عز وجل - .





المنظومات في القواعد الفقهية :
لقد نظم بعض العلماء ، جملة من القواعد الفقهية ، وصاغوها في قالبٍ شِعريٍّ ، رغبةً في تسهيل حفظِها وتيسير دراستها ، وذلك لأن الأسلوب الشعري أسرعُ عُلوقًا بالذهن ، وأطولُ بقاءً في الذاكرة ، وذلك بسبب الوزن والقافية ، والإيجاز الذي تتصف به هذه المنظومات .
ومن آثار الالتزام بالوزن والقافية : أن قواعد العلوم لا تُذكر في المنظومات غالبًا بصيغها المعهودة ، والمتداولة بين أهلِ الاختصاص ، وهي صيغ دقيقة ، وعبارات مُحْكمة في الغالب . ومن آثار هذا أيضًا عدم الالتزام أحيانًا بقواعد اللغة العربية ، وذلك لضبط الوزن ، وهذا متعارف عليه بين الناظمين ومعفو عنه ، ولكن ينبه عليه  . القواعد الفقهية ... / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم .
وتتابعت المصنفات جيلاً بعد جيلٍ ، ورعيلاً بعد رعيلٍ .
وكان آخر ما أُلِّف في ذلك  " منظومة القواعد الفقهية " للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ـ رحمه الله ـ . ضمَّنها طائفة من مختاراته في القواعد والضوابط . وقد احتوت على أمهات قواعد الدين ، وهي وإن كانت قليلة الألفاظ ، فهي كثيرة المعاني لمن تأملها ، ومن ثَمَّ كانت عناية المتأخرين بهذا النظم دراسة وحفظًا وتفهُّما وضبطًا .
مجموعة الفوائد البهية على منظومة القواعد الفقهية / ص : 9 / بتصرف .
التعريف بالنَّظْمِ المختار 
هي منظومة موجزة تتكون من 47 بيتًا على بحر الرَّجَزِ ، ولم يقصد الناظم فيها التوسع والتفصيل ، وإنما أراد الإيجاز والتسهيل لتكون مقدمة لهذا العلم ، وسلمًا يرتقي به الطالبُ إلى ما فوقه من المتون المتوسطة والمطولة ، ومِفتاحًا يفتح به بعض خزائن هذا العلم .
والمنظومة تمثلُ جملةً من اختبارات الناظم ، ومعلوماته ، التي لا ترتبط بكتات معينٍ ، فهو لم يحاول نظم متن مخصوصٍ .
وقد ذكر فيها جملة من القواعد الفقهية ـ وهي غالب المنظومة ـ وبعض الضوابط الفقهية ، كقولهم " يجب الضمان مع الإتلاف " ، وبعض القواعد الأصولية مثل
"
الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا " ، وبعض المسائل الفقهية وهي قليلة سنشير إليها في موضعها .
وقد أطال رحمه الله في المقدمة قليلاً ، فإنها مكونةٌ من عشرة أبيات في فضل العلم النافع وضابطه وأهمية القواعد وثمراتها ، وهذه العشرة تُعدُّ طويلةً إذا نظرنا إلى عدد أبيات المنظومة ، وإذا أخرجنا الخاتمة ـ وهي بيتان ـ فالباقي  35 بيتًا في القواعد . منظومة القواعد الفقهية ... / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم .
لما سبق سنعرض النظم المختار ، ثم التعريف بالناظم .
ثم نشرع في شرح وتوضيح قواعد النظم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
            [1]                       
وَجَامِعِ الأَشْيَاءِ وَالْمُفَرِّقِ
ذِي النِّعَمِ الْوَاسِعَةِ الْغَزِيرَهْ
            [2]                       
وَالْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ الْكَثِيرَهْ
ثُمَّ الصَّلاةُ مَعْ سَلامٍ دَائِمِ
            [3]                       
عَلَى الرَّسُولِ الْقُرَشِيِّ الْخَاتِمِ
وَآلِهِ وَصَحْبِهِ الأَبْرَارِ
            [4]                       
الْحَائِزِي مَرَاتِبِ الْفَخَارِ
اعْلَمْ هُدِيتَ أَنَّ أَفْضَلَ الْمِنَنْ
            [5]                       
عِلْمٌ يُزِيلُ الشَّكَّ عَنْكَ وَالدَّرَنْ
وَيَكْشِفُ الْحَقَّ لِذِي الْقُلُوبِ
            [6]                       
وَيُوصِلُ الْعَبْدَ إِلَى الْمَطْلُوبِ
فَاحْرِصْ عَلَى فَهْمِكَ لِلْقَوَاعِدِ
            [7]                       
جَامِعَةِ الْمَسَائِلِ الشَّوَارِدِ
فَتَرْتَقِي فِي الْعِلْمِ خَيْرَ مُرْتَقَى
            [8]                       
وَتَقْتَفِي سُبْلَ الَّذِي قَدْ وُفِّقَا
فَهَذِهِ قَوَاعِدٌ نَظَمْتُهَا
            [9]                
مِنْ كُتْبِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَدْ حَصَّلْتُهَا
جَزَاهُمُ الْمَوْلَى عَظِيمَ الأَجْرِ
         [10]                    
وَالْعَفْوَ مَعْ غُفْرَانِهِ وَالْبِرِّ
(النِّيَّةُ) شَرْطٌ لِسَائِرِ الْعَمَلْ
         [11]                    
بِهَا الصَّلاحُ وَالْفَسَادُ لِلْعَمَلْ
الدِّينُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَصَالِحِ
         [12]                    
فِي جَلْبِهَا وَالدَّرْءِ لِلْقَبَائِحِ
فَإِنْ تَزَاحَمْ عَدَدُ الْمَصَالِحِ
         [13]                    
يُقَدَّمُ الأَعْلَى مِنَ الْمَصَالِحِ
وَضِدُّهُ تَزَاحُمُ الْمَفَاسِدِ
         [14]                    
يُرْتَكَبُ الأَدْنَى مِنَ الْمَفَاسِد
وَمِنْ قَوَاعِدْ [ شَرْعِنَا التَّيْسِيرُ
         [15]                    
فِي كُلِّ أَمْرٍ نَابَهُ تَعْسِيرُ
وَلَيْسَ وَاجِبٌ بِلا اقْتِدَارِ
         [16]                    
وَلا مُحَرَّمٌ مَعَ اضْطِّرَارِ
وَكُلُّ مَحْظُورٍ مَعَ الضَّرُورَهْ
         [17]                    
بِقَدْرِ مَا تَحْتَاجُهُ الضَّرُورَهْ
وَتَرْجِعُ الأَحْكَامُ لِلْيَقِينِ
         [18]                    
فَلا يُزِيلُ الشَّكَّ لِلْيَقِينِ
وَالأَصْلُ فِي مِيَاهِنَا الطَّهَارَهْ
         [19]                    
وَالأَرْضِ وَالثِّيَابِ وَالْحِجَارَهْ
وَالأَصْلُ فِي الأَبْضَاعِ وَاللُّحُومِ
         [20]                    
وَالنَّفْسِ وَالأَمْوَالِ لِلْمَعْصُومِ
تَحْرِيمُهَا حَتَّى يَجِيءَ الْحِلُّ
         [21]                    
فَافْهَمْ هَدَاكَ اللَّهُ مَا يُمَلُّ
وَالأَصْلُ فِي عَادَاتِنَا الإِبَاحَهْ
         [22]                    
حَتَّى يَجِيءَ صَارِفُ الإِبَاحَهْ
وَلَيْسَ مَشْرُوعًا مِنَ الأُمُورِ
         [23]                    
غَيْرُ الَّذِي فِي شَرْعِنَا مَذْكُورِ
وَسَائِلُ الأُمُورِ كَالْمَقَاصِدِ
         [24]                    
وَاحْكُمْ بِهَذَا الْحُكْمِ لِلزَّوَائِدِ
وَالْخَطَا وَالإِكْرَاهُ وَالنِّسْيَانُ
         [25]                    
أَسْقَطَهُ مَعْبُودُنَا الرَّحْمَانُ
لَكِنْ مَعَ الإِتْلافِ يَثْبُتُ الْبَدَلْ
         [26]                    
وَيَنْتَفِي التَّأْثِيمُ عَنْهُ وَالزَّلَلْ
وَمِنْ مَسَائِلِ الأَحْكَامِ فِي الْتَّبَعْ
         [27]                    
يَثْبُتُ لا إِذَا اسْتَقَلَّ فَوَقَعْ
وَ(الْعُرْفُ) مَعْمُولٌ بِهِ إِذَا وَرَدْ
         [28]                    
حُكْمٌ مِنَ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ لَمْ يُحَدْ
مُعَاجِلُ الْمَحْظُورِ قَبْلَ آنِهِ
         [29]                    
قَدْ بَاءَ بِالْخُسْرَانِ مَعْ حِرْمَانِهِ
وَإِنْ أَتَى التَّحْرِيمُ فِي نَفْسِ الْعَمَلْ
         [30]                    
أَوْ شَرْطِهِ ، فَذُو فَسَادٍ وَخَلَلْ
وَمُتْلِفٌ مُؤْذِيهِ لَيْسَ يَضْمَنُ
         [31]                    
بَعْدَ الدِّفَاعِ بِالَّتِي هِيْ أَحْسَنُ
وَ(أَلْ) تُفِيدُ الْكُلَّ فِي الْعُمُومِ
         [32]                    
فِي الْجَمْعِ وَالإِفْرَادِ كَالْعَلِيمِ
وَالنَّكِرَاتُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ
         [33]                    
تُعْطِي الْعُمُومَ أَوْ سِيَاقِ النَّهْيِ
كَذَاكَ (مَنْ) وَ (مَا) تُفِيدَانِ مَعَا
         [34]                    
كُلَّ الْعُمُومِ يِا أَخِي فَاسْمَعَا
وَمِثْلُهُ الْمُفْرَدُ إِذْ يُضَافُ
         [35]                    
فَافْهَمْ هُدِيتَ الرُّشْـدَ مَا يُضَافُ
وَلا يَتِمُّ الْحُكْمُ حَتَّى تَجْتَمِعْ
         [36]                    
كُلُّ الشُّرُوطِ وَالْمَوَانِعْ تَرْتَفِعْ
وَمَنْ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ مِنْ عَمَلْ
         [37]                    
قَدِ اسْتَحَقَّ مَا لَهُ عَلَى الْعَمَلْ
وَكُلُّ حُكْمٍ دَائِرٌ مَعْ عِلَّتِهْ
         [38]                    
وَهِيَ الَّتِي قَدْ أَوْجَبَتْ شَرْعِيَّتِهْ
وَكُلُّ شَرْطٍ لازِمٍ لِلْعَاقِدِ
         [39]                    
فِي الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالْمَقَاصِدِ
إِلا شُرُوطًا حَلَّلَتْ مُحَرَّمَا
         [40]                    
أَوْ عَكْسَهُ فَبَاطِلاتٌ فَاعْلَمَا
تُسْتَعْمَلُ الْقُرْعَةُ عِنْدَ الْمُبْهَمِ
         [41]                    
مِنَ الْحُقُوقِ أَوْ لَدَى التَّزَاحُمِ
وَإِنْ تَسَاوَى الْعَمَلانِ اجْتَمَعَا
         [42]                    
وَفُعِلَ إِحْدَاهُمَا فَاسْتَمِعَا
وَكُلُّ مَشْغُولٍ فَلا يُشْغَّلْ
         [43]                    
مِثَالُهُ الْمَرْهُونُ وَالْمُسَبَّلْ
وَمَنْ يُؤَدِّ عَنْ أَخِيهِ وَاجِبَا
         [44]                    
لَهُ الرُّجُوعُ إِنْ نَوَى يُطَالِبَا
وَالْوَازِعُ الطَّبَعِيْ عَنِ الْعِصْيَانِ
         [45]                    
كَالْوَازِعِ الشَّرْعِيْ بِلا نُكْرَانِ
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى التَّمَامِ
         [46]                    
فِي الْبَدْءِ وَالْخِتَامِ وَالدَّوَامِ
ثُمَّ الصَّلاةُ مَعْ سَلامٍ شَائِعِ
         [47]                    
عَلَى النَّبِيْ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِ


أَسألُ اللهَ أَنْ يَنفَعَ بِهَا إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ -هنا-
التعريف بالناظم

هو الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر بن حمد آل سعدي ؛ المكنى بأبي عبد الله .
ولد في بلدة عُنَيزة في القصيم بالمملكة العربية السعودية ، في الثاني عشر من المحرم سنة سبع وثلاثمائة وألف - 1307 - من الهجرة النبوية . وقد توفيت أمه وله أربع سنوات ، وتوفي أبوه وله سبع سنين ، فعاش يتيم الأبوين ، ولكنه نشأ نشأة حسنة ، وكان قد استرعى الأنظار منذ حداثة سِنه بذكائه ورغبته الشديدة في العلوم .
عني " أبوه " بتربيته تربية صالحة ، ولما عاجلته المنية في سن مبكر من حياة الابن ، كفلته " زوجة أبيه " وآثرته بالعناية والرعاية والمحبة أكثر من أبنائها . ولما شب صار في بيت أخيه الأكبر " حمد بن ناصر " الذي أوصاه أبوه به .
وكان " حمد " رجلاً صالحًا ومن حملة القرآن ، فنشأ " عبد الرحمن " نشأة صالحة كريمة .
وقد قرأ القرآن بعد وفاة والده ثم حفظه عن ظهر قلب ، وأتقنه وعمره أحد عشر سنة .
وقد أخذ العلم عن شيوخ كثيرين من أجلاء علماء نجد ، أكثرهم من " عُنيزة " و " بُريدة " ،فاجتهد وجَدَّ حتى نال الحظ الأوفر من كل فن من فنون العلم ، ولما بلغ من العمر ثلاثا وعشرين سنة جلس للتدريس فكان يتعلم ويعلِّم ، ويقضي جميع أوقاته في ذلك ، حتى أنه في عام ألف وثلاثمائة وخمسين صار التدريس ببلده راجعًا إليه ومعمول جمع الطلبة في التعليم عليه .
ومن مشايخه الشيخ محمد الشنقيطي ... .
وكان أعظم اشتغاله وانتفاعه بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم .
كما خلف ـ رحمه الله ـ تلاميذ نجباء ، أشهرهم العلامة " محمد بن صالح العثيمين " ـ رحمه الله ـ .
وفضيلة الشيخ العلامة " عبد الله بن عبد الرحمن آل بسام " ـ حفظه الله ـ .
* عقيدة الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ هي عقيدة السلف الصالح .
* فقهه ـ رحمه الله ـ : فقد كان في بداية الطلب متمسكًا بمذهب الإمام أحمد تبعا لمشايخه ،

ثم مال إلى الترجيح (1) وترك التقليد .

اللآلئ والدرر السَّعديَّة / ص : 9 / بتصرف .


( 1 ) إلى الترجيح : أي إلى دراسة الأدلة والترجيح بينها .

o لطيفة :


ـ وضع الشيخ السعدي ـ رحمه الله تعالى ـ على نظمه شرحًا لطيفا ، فرغ منه ي الثامن عشر من ذي القَعْدة سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة وألف 1331، وعمره حينئذ لم يتجاوز الرابعة والعشرين .

مجموعة الفوائد البهية على منظومة القواعد الفقهية / ص : 27 .


* سمته : عُرف ـ رحمه الله ـ بحسن الخلق ، وطِيب الكلام ، وبذل النصيحة ، والتواضع الجم ، والسعي في مصالح الخلق ، مع حسن الديانة ، والزهد والتعفف ، والشفقة على المساكين ، لذا اجتمعت النفوس على محبته .

مقدمة المرتقى الذلول إلى نفائس علم الأصول / السعدي / ص : 9 .

وكان ذا بسمة دائمة ، كثير البكاء والصلاة والصيام .

القواعد والأصول الجامعة ... / ص : 17 .
* مرضه ووفاته :


قبل وفاته بخمس سنوات أصيب ـ رحمه الله ـ بضغط الدم وتصلب الشرايين ، وكان يعاوده مرة بعد أخرى وهو صابر عليه ولم يمنعه ذلك من مواصلة نشاطه في التعليم والإمامة والخطابة والتأليف ، وقد اهتم أولو الأمر بالمملكة بعلاجه ، وأذنوا بسفره إلى خارج البلاد للعلاج ، وفي آخر أيامه ـ رحمه الله ـ أصيب بنزيف في المخ فأرسَلَ الملك فيصل ـ حيث كان وليّا للعهد ـ طائرة خاصة فيها أطباء مَهَرَة ، فسبقها الأجل المحتوم حيث تلقى طاقم الطائرة نبأ وفاته وهم في الجو ، وذلك في فجر يوم الخميس الثالث والعشرين من جمادى الآخرة عام ستة وسبعين وثلاثمائة وألف عن تسع وستين سنة .أجزل الله له المثوبة ، ورحمه الله رحمة واسعة ، وقد رثاه غير واحد من الفضلاء بقصائد مبكية . وبموته فقد العالم الإسلامي عالمًا كبيرًا ومربيًا فاضلاً .

اللآلئ والدرر السَّعديَّة / ص : 9 / بتصرف .

* * * * *






شرح منظومة القواعد الفقهية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ


1ـ الحمدُ للهِ العليّ الأَرفقِ      وجامعِ الأشياءِ والمفرِّقِ
الحمدُ للهِ : هو الثناء .
وقد بدأ النظم بالحمدلة :
اتباعًا للقرآن ، فقد بدأ الله تعالى كتابه بسورة الحمد ـ الفاتحة ـ .
وعملاً بالسنة ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يفتتح مواعظه وخطبه بالحمدلة كما يؤخذ من مجموع الروايات ـ  خطبة الحاجة  ـ .
ويقوم مقام الحمدلة كل ما فيه ثناء لله تعالى ، كالبسملة
ونحوها .
معاني  البسملة العظيمة :بسم الله الرحمن الرحيم :
 " بسم الله " ؛ أي أبتدئ بكل اسم لله تعالى ، لأن لفظ " اسم " مفرد مضاف ، فيعم جميع الأسماء الحسنى .
" الله "  هو المألوه المعبود ، المستحق لإفراده بالعبادة ، لما اتصف به من صفات الألوهية ، وهي صفات الكمال . " الرحمن الرحيم "  اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان / للسعدي / ص : 21 . تفسير الفاتحة .
ويُراد بالحمد :

* وصف المحمود بالوصف الجميل مع محبته وتعظيمه .
 فهو الثناء على الله بصفات الكمال ، وبأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل ، فله الحمد الكامل بجميع الوجوه  . تفسير السعدي .
* وهو سبحانه يُحمد حمدًا مطلقًا ، أي حمد استحقاق ، لأنه يستحق الحمد لذاته .
ـ الفرق بين الحمد والشكر :
الحمد متعلق بالنعمة والمصيبة ، أما الشكر فعلى النعمة فقط
لذا كان صلى الله عليه وسلم يحمد الله على كل حال .
* فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : كان رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إذا رأى ما يُحب قال : " الحمد لله الذي بنعمته تتُم الصالحات " ، وإذا رأى ما يكره قال : " الحمد لله على كل حال " .
سنن ابن ماجه / تحقيق الشيخ الألباني / ( 34 ) ـ كتاب : الدعاء /( 55 ) ـ باب : فضل الحامدين / حديث رقم : 3803 / ص : 627 / حسن .
الله : هو المألوه ، المعبود المستحق لإفراده بالعبادة ، ِلمَا اتصف به من صفات الألوهية ، وهي صفات الكمال .
ولفظ الجلالة أعرف من أن يُعرَّف ، وهو أصل لجميع الأسماء الحسنى.
العليّ : الذي له العلوّ التام المطلق من جميع الوجوه ، فيشمل علوّ الذات : بمعنى أنه مستوٍ على عرشه عالٍ على خلقه ، ويشمل علوّ القهر : بمعنى أن كل شيء تحت سلطانه وقدرته ، فهو الذي قهر الأشياء بجلاله وعظمته .
وقد جمع بينهما-أي بين العلو والقهر- في قوله تعالى " وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ" سورة الأنعام / آية : 18 .
ويشمل : علو القدر والمكانة والشأن : قال تعالى " وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ"سورة الأنعام / آية : 91 .
والعلي من أسماء الله الحسنى ، كما قال تعالى " وَهُوَ الْعَليُّ الْعَظِيمُ "سورة البقرة / آية : 255 .
الأَرفقِ : أي الرفيق في أفعاله ، فأفعاله كلها رفق ، على غاية المصالح والحكمة ، والرفق صفة ثابتة لله عز وجل .
القواعد الفقهية ... / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم .
الرفق:وهو اللين والتسهيل، وضده العنف والتشديد والتصعيب.
الرفيق: أي الكثير الرفق، وهو اللين والتسهيل، وضده العنف والتشديد والتصعيب.
أيضًا الرفيق في حق الله تعالى بمعنى :الحليم؛ فإنه لا يعجل بعقوبة العصاة ليتوب من سبقت له العناية، ويزداد إثمًا من سبقت له الشقاوة.
إذ هو الميسر والمسهل لأسباب الخير كلها، والمعطي لها. وقد يجيء الرفق أيضًا بمعنى: التمهل في الأمور والتأني فيها
* فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال "  يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ، وما لا يعطي على ما سواه "
صحيح مسلم . متون / ( 45 ) ـ كتاب البر والصلة والآداب / ( 23 ) ـ باب : فضل الرفق /حديث رقم : 77 ـ ( 2593 ) / ص : 661 .
وقد أظهر سبحانه لعباده من آثار رفقه ما يستدلون به على كماله وكمال حكمته ورفقه ، كما في خلقه السموات والأرض وما بينهما في ستة أيّامٍ ، مع أنه قادر على أن يخلقها في لحظة ، وكذلك خلقه الإنسان والحيوانات والنبات ، على اختلاف أنواعه ، يخلقها شيئًا فشيئًا ، حتى تنتهي وتكمل ، مع قدرته على تكميلها في لحظة ، ولكنه رفيق حكيم ، فمن رفقه وحكمته تطويرها في هذه الأطوار ، فلا تَنافي بين قدرته وحكمته ،
وهو سبحانه رفيق في أمره ونهيه فلا يأخذ عباده بالتكاليف الشاقة مرة واحدة ، بل يتدرج معهم من حال إلى حال حتى تألفها نفوسهم وتأنس إليها طباعهم  ، كما فعل ذلك سبحانه في فرضية الصيام وفي تحريم الخمر والربا ونحوهما ...،

وأمرنا سبحانه بالرفق : قال تعالى" وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا . رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا "الإسراء/23-25.
فالمتأني الذي يأتي الأمور برفق وسكينة ، اتباعًا لسنن الله في الكون واقتداء بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم  تتيسر له الأمور وتذلل الصعاب
o لطيفة نحوية :

" وجامعِ" هكذا بالجر عطفًا على ( الأرفقِ ) 0. ويجوز الرفع... وجامعُ  على الرفع خبر لمبتدأ محذوف ، تقديره هو ، وهو جامع الأشياء والمفرق  . منظومة القواعد الفقهية / شرح : عبيد الجابري .
" وَجَامِعِ الأَشْيَاءِ وَالْمُفَرِّقِ "  يعني أنه سبحانه يجمع بين الأشياء في بعض المعاني والصفات ، ويفرق بينها في البعض الآخر ، فجمع الأشياء في شيء ، وفرّقها في شيء آخر ، كما جَمَعَ بين خلقه في كونه خلقهم ، وَرَزَقهم ، وفرّق بينهم في الأشكال والصور ، والطول والقِصر ، والسواد والبياض ، وغير ذلك من الصفات .
والناس يشتركون في أصل الرزق ، فكل مخلوق مرزوق ، قال تعالى " وَما مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا " سورة هود / آية : 6 .
ولكنهم يتفاوتون في مقدار الرزق ونوعه على حسب الحكمة الإلهية ، كما قال سبحانه " وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ
بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ " .سورة الشورى / آية : 27 .
وكل هذا صادر عن كمال قدرته وحكمته ، ووضعه الأشياءَ مواضعها اللائقة بها .

رسالة القواعد الفقهية / السعدي / ص : 5 / بتصرف .
وإطلاق هذا اللفظ أعني "  وَجَامِعِ الأَشْيَاءِ وَالْمُفَرِّقِ   "ـ على الله تعالى من باب الإخبار ، وليس من باب التسمية ، فيصح الإخبار عن الله تعالى بكل ما صح من حيث المعنى ، ولكن لا يُسمى إلا بما سمى به نفسه .
القواعد الفقهية ... / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم .

س : ما علاقة هذه المقدمة بموضوع المنظومة ؟
ج : كأنه رحمه الله يقول : إذا كان ربُّك عليًّا ورفيقًا ، فمعناه أنك لن تنال الفهم في دينه ، إلا بأن تستعين به سبحانه لأنه هو العلي ، وأن تكون رفيقًا ، كما يحبه لنفسه ، وكما يحبه لعباده . فهذا الدين متين ، ويحتاج إلى أن يوغِلَ الإنسانُ فيه برفق ، مع التنبيه علي ضعف الحديث الوارد " إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق " 
فالحديث ضعيف ، ولكن المعنى صحيح (1) وموافق لقواعد الشريعة فمما صح بهذا المعنى :
* عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ :
" إن هذا الدينَ يُسرٌ ، ولن يُشاد الدينَ أحدٌ إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا ، وأبشروا ويسروا ، واستعينوا بالغدوةِ والرَّوْحَةِ ؛ وشيءٍ من الدَّلْجَةِ "
سنن النسائي  المجلد الواحد  / تحقيق الشيخ الألباني / ( 47 ) ـ كتاب : الإيمان وشرائعه / 28- باب : الدين يسر / حديث رقم : 5034 / ص : 764 / صحيح .

( 1 ) ليس معنى صحة المعنى أنه يصلح للاستشهاد به ، بل لابد من توافر صحة المعنى وصحة النسبة للرسول صلى الله عليه وسلم .
وتعبير الناظم بقوله" وَجَامِعِ الأَشْيَاءِ وَالْمُفَرِّقِ " ، فيه براعة استهلال كما يسميه البلاغيون ، والمراد بها : دلالة مطلع الكلام على مضمونه ، فهذا التعبير يدل على أن هذا النظم في القواعد التي من شأنها الجمع لكثر من الفروع ، والتفريق بين بعضها .

رسالة القواعد الفقهية / السعدي / ص : 5 / بتصرف .وشرحها للدكتور / مصطفى كرامة مخدوم .


ذِي النِّعَمِ الْوَاسِعَةِ الْغَزِيرَةْ    2     وَالْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ الْكَثِيرَةْ
النِّعَمِ : جمع نِعمة ـ بكسر النون ـ وهي : المنفعةُ المفعولةُ على جهة الإحسان إلى الغير
وأما النَّعمة ـ بفتح النون ـ فهي التَّنَعُّمُ .
الواسعةِ : من السَّعة ، وهي ضد الضيق .
الغزيرةْ: من الغزارة ، وهي الكثرة ضد القِلة .
ونِعَم اللهِ تعالى موصوفةٌ بهاتين الصفتين.قال تعالى " وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ " . سورة النحل / آية : 18 . لاَ تُحْصُوهَا ـ : لسعتها وكثرتها .
فهذا بيان لسعة وكثرة فضله وعطاياه الشاملة لجميع خلقه ، فلا يخلو مخلوق من نعمِهِ طرفة عين ، ولا سيّما الآدمي ، فإنَّ الله فضَّله وشرّفه ، وسخر له ما في السموات وما في الأرض ، وأسبغ عليه نعمَه الظاهرة والباطنة ، ولا يمكن تعداد نعمه لسعتها وكثرتها .
ولكنه تعالى رضِيَ مَنْ شَكَر نعمه ، بالاعتراف بها ، والتحدث بها ، وصرفها في طاعة الله ، وأن لا يستعان بشيءٍ من نعمه على معاصيه .

والحِكَمِ : جمع حِكْمة ، وهي : اسم جامع لكل ما يمنع من الوقوع في الخطأ ، وذلك بوضع كل شيء في مكانه المناسب من جميع الوجوه ، وهذا في حق من له الكمال المطلق سبحانه وتعالى .
الباهرةِ : أي المدهشة للعقول لعظمتها ودقتها .
والحِكَمِ الباهرةِ الكثيرةْ: يعني أن حكمه تعالى كثيرة تبهر العقول ، وتتعجب منها غاية العجب ، فإن جميع مخلوقاته ومأموراته مشتملة على غاية الحكمة .
ومَنْ نظر في هذا الكون وعجائبه وسمائِه وأرضه ، وشمسه وقمره ، وكواكبه وفصوله وحَيَوانِهِ ، وأشجاره ونباته ، وجباله وبحاره ، وجميع ما يحتوي عليه ، رأى فيه العجائب العظيمة ، ويكفي الإنسان نفسه ، فإنه إذا نظر إلى كل عضو من أعضائِه علِمَ أنه لا يصلح في غير مَحَلِّهِ .

فإذا أردت أن تكون حكيمًا ، فيجب أن تفهم هذا ، وتضع الأمور في أماكنها ، كما يحب الله ويرضى ، وهذا فضل من الله ، قال تعالى "يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا " . سورة البقرة / آية : 269 .


رسالة القواعد الفقهية / السعدي / ص : 6 / بتصرف . وشرحها للدكتور / مصطفى كرامة مخدوم .

o تعقيب :

من حِكَم الله ما لا يدركه العباد ، ولكن المتقرر عند أهل الإيمان قولاً وعملاً واعتقادًا أن أحكام الله لها حِكم ومصالح ، وأن على العبد الانقياد والتسليم ـ للأحكام الشرعية ـ سواء ظهرت له الحكمة أو لم تظهر له .
منظومة القواعد الفقهية ... / شرح : عُبيد الجابري .

=============== 

ـ ثُمَّ الصلاةُ مَعْ سلامٍ دائمِ     3    على الرسولِ القُرَشِىِّ الخَاتِمِ

 ـ وآلهِ وصحبهِ الأبرارِ        4      الحَائِزِي مراتبَ الفَخارِ
 الصلاةُ مَعْ سلامٍ : الثناء والذكر الجميل ، وكذلك الدعاء
إذا تأمل الإنسان كلام العرب ، وراعاه كله ، وجد أن المراد بالصلاة : الثناء والذكر الجميل ، وأنه لا يُراد بلفظ الصلاة في جميع المواطن الدعاء . يدل على هذا أن بعض النصوص الواردة في الصلاة لا يمكن أن تُفسر بالدعاء ، مثل : نسبة الصلاة لله ـ عز وجل ـ " هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ " سورة الأحزاب / آية : 43 ، لا يمكن أن يُقال هو الذي يدعو .
 قال البخاري في صحيحه معلَّقًا : قال أبو العالية : صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة وصلاة الملائكة الدعاء .
صحيح البخاري / ( 65 ) ـ كتاب : تفسير القرآن / ( 10 ) ـ باب : قوله" إن الله وملائكته يصلون ... " سورة الأحزاب ( آية : 56 ) / ص : 577 . 
مَعْ سلامٍ: بمعنى التحية ، كما يأتي أيضًا بمعنى السلامة من النقص . 
 فالصلاة من الله : هي ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى ففيها حصول الخير ، وصلاتنا وسلامنا على الرسول : فهي دعاء الله بأن يذكر رسولنا بالثناء الجميل والمحامد في الملأ الأعلى وأن يسلمه ويدفع عنه الشر والآفات والنقائص . 
 على الرسولِ : الرسول هو من أُوحِيَ إليه بشرع وأُمر بتبليغه .
أما النبي : من بُعِثَ لتقرير شرع مَنْ قَبْله ، وهو بالطبع مأمور بتبليغه ، إذ من المعلوم أن العلماء مأمورون بذلك والأنبياء بذلك أولى كما لا يخفى .

شرح العقيدة الطحاوية ـ تحقيق الألباني / ص : 38 / بتصرف .
القُرَشِىِّ : أي المنسوب إلى قريش.
الخَاتِمِ: الذي ختم الله به أنبياءَه ورسله ، فلا نبي بعده .
قال تعالى" مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبيِينَ " . سورة الأحزاب / آية : 40 .  
 
-وآلهِ وصحبهِ الأبرارِ     4         الحَائِزِي مراتبَ الفَخارِ 
 : صلى المؤلف أيضًا على آل النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ويكون بذلك متبِعًا لهدي النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ؛ فإن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ كان قد أمر أصحابه في التشهد بالصلاة عليه وعلى آله ، ولذلك نقول : اللهم صل على محمد ، وعلى آل محمد .
و " الآل " في لغة العرب يراد بها عدد من المعاني ، منها القرابة . فآل فلان قرابته ، ويراد به الأتباع ، فيُقال آل فلان بمعنى أتباعه ، ولذلك فُسر قوله ـ عز وجل ـ " ... أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ".سورة غافر / آية : 46 ، 
فإن المراد بآل فرعون هنا أتباعه لأن مِنْ قرابة فرعون من هداه الله عز وجل ودخل في دين الإسلام . القواعد الفقهية ... / شرح : سعد بن ناصر الشثري .
 وصحبهِ : الصحب اسم جمع لصاحب .والمراد : الصحابي ، والصحابي هو من لقي النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ مؤمنًا به ولو لم تطل صحبته ، ومات على ذلك ، ولو تخللت ذلك رِدة بعدها إسلام.
الأبرارِ : الأبرار جمع " بارّ " وهو كل مؤمن جَمع بين الإخلاص والصدق في الأقوال والأعمال ، فهم اتصفوا بذلك ، إيمان مع صدق وإخلاص ـ رضوان الله عليهم ـ .

منظومة ... / شرح : عبيد الجابري .
الحَائِزِي مراتبَ الفَخارِ : " الحائزي " : حاز الشيء جمعه . " المراتب " : جمع مرتبة وهي المنزِلة . " الفخار " : جمع مفخرة وهي المأثرة والمنقبة وقيل الشرف .
وشرف الصحبة لا يعدلُه شرف ، فأصحاب محمد ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ اجتمع لهم من الشرف والمآثر والمناقب ما لا يجتمع لغيرهم ألْبتة .
ومن تلكم المناقب :
1ـ السبق بالإسلام . 2 ـ تمام الاتباع .
3 ـ أنهم هم صفوة الأمة .
4ـ العدالة ، فالصحابة كلهم عدول ، ولهذا نص علماء المصطلح على أن جهالة الصحابي لا تضر 
، فإذا قال الثقة : حدثني من صحب النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أو رجل من صحب النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فلا نبحث . أما مَنْ دون الصحابة من الناس يبحث في حاله من حيث الثقة والضعف والكذب . 
  ـ اعلَم ـ هُدِيتَ ـ أَنَّ أفضلَ المِنَنْ       5        عِلمٌ يُزيلُ الشَّكَ عَنْكَ والدَّرنْ
 ـ وَيكْشِفُ الحقَّ لذي القلوبِ            6      وَيُوصِلُ العَبْدَ إلى المَطْلوبِ



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق